10/4/16

مبادئ موجهة لأي فعل تحليلي-إريك لوران





Eric Laurent


توطئة

خلال مؤتمر الإتحاد العالمي للتحليل النفسي (WAP) في كومونداتوبا, في سنة 2004 عرضت المفوضية العامة (Delegate General) أمام الاجتماع العام (General Assembly) "إعلان مبادئ". وتمت فيما بعد, دراسة هذا "الإعلان" بعناية بالغة في المدارس المختلفة. وقد أمدتنا المجالس المختلفة بنتائج الدراسة في كل منها, وبمعايناتها وملاحظاتها. استمرارا لهذا المجهود, نعرض الآن أمام الاجتماع هذه "المبادئ الموجهة لكل فعل تحليلي", طالبين منكم تبنيها.

المبدأ الأول
التحليل النفسي هو ممارسة عمادها الكلام. شريكاها هما المحلل (Analyst) والمتحلَل (Analysand), الحاضران سوية في ذات الجلسة التحليلية. يتحدث المتحلل عما يجلب معه لذلك اللقاء, عن معاناته وعارضه. ذاك العارض المشبَك بمادَية اللاوعي (اللاشعور), والمكون من أشياء كانت قد قيلت له وآذته, وأشياء أخرى لا يمكن الإفصاح عنها, تسبب له المعاناة. يفصّل المحلل مقولات المتحلل ويمكنه من نسج ثوب لاوعيه (لاشعوره). إن قوى اللغة وتأثيرات الحقيقة التي توفّرها, أو ما يسمى بالتأويل, هو القوة الفعلية للاّوعي (اللاشعور).
يظهر التأويل في كلا الطرفين, المحلل والمتحلل. ولكن ليس لكليهما ذات العلاقة باللاّوعي (اللاشعور), نظرا لأن أحدهما فقط قد تم له خوض تلك التجربة حتى نهايتها, أما الآخر فلم يتم له ذلك.

 المبدأ الثاني
إن الجلسة التحليلية هي المكان الذي من الممكن فيه, تفكيك أكثر التماهيات ثباتا والتي ترتبط بها الذات. يجيز فيها المحلل ذاك الابتعاد عن التقاليد والعادات والقواعد السلوكية والقوانين التي يلتزم بها المتحلل خارج الجلسات. ويتيح الدخول بمساءلة جذرية لأسس هوية كل فرد. وباستطاعة المحلل أن يخفف من جذرية المساءلة آخذا بعين الاعتبار خاصية الحالة العيادية للذات التي تتوجه إليه. وعدا عن ذلك, لا يأخذ المحلل بالحسبان أي اعتبارات أخرى. إن هذا الأمر بعينه هو ما يحدد خاصية موقع المحلل, حين يدعم هذا تلك المساءلة والمكاشفة وأحجية كل ذات حضرت للقائه. ولهذا فانه لا يتماهى مع أي من تلك الأدوار التي يريد منه محادثه أن يؤديها, أو مع أي موقع سيادة أو قيمة قائمة حتى الساعة, في الحضارة. وبمفهوم معين, فأن المحلل هو ذاك الذي لا يمكن نسبته إلى أي مكان آخر غير مكان السؤال عن الرغبة.

المبدأ الثالث
يتوجه المتحلل للمحلل, ناسبا له مشاعر, ومعتقدات وتوقعات كردة فعل لما يقوله, آملا في أن تتحقق تلك التوقعات والمعتقدات التي يترقبها. إن فك مغالق المعنى في تبادلات الحديث ما بين المتحلل والمحلل ليس بالأمر الوحيد الحاصل هنا. فهنالك أيضا قصد المتكلم. ويتعلق هذا الأمر باسترداد لشيء ما كان قد فقده شريك المحادثة. هذا الاسترداد للغرض هو المفتاح للأسطورة الفرويدية عن الحافز. وهو ما يُؤسس التحويل الذي يربط الشريكين معا. إن معادلة لاكان القائلة , بأن الذات تتلقى رسالتها من ال-آخر بشكل معكوس, تحوي كلاّ من سبر المعنى, والأمل في التأثير على ذاك الذي نتوجه إليه. ففي نهاية الأمر, يصبو المتحلل, ما عبر المعنى لما يقوله, أن يجد في أل-آخر شريكا لتوقعاته ومعتقداته ورغباته. فهو يتوجه إلى شريك هوامه. مستنيرا بتجربته التحليلية بالنسبة لطبيعة هوامه الذاتي, يأخذ المحلل ذاك الأمر في الحسبان , ويتجنب الفعل  باسم هذا الهوام.

المبدأ الرابع
أن رباط التحويل يفترض موقعا, وهو "موقع ال–آخر الكبير" كما صاغه لاكان, والذي لا يسوده آخر محدد بعينه. انه المكان الذي يستطيع به اللاوعي (اللاشعور) أن يتجلّى مع أقصى درجة من حرية التحدث, وبالتالي, اختبار إغراءاته وصعوباته. انه أيضا المكان الذي تعرض به شخوص شريك-الهوام من خلال ألعاب المرآة الأكثر تعقيدا. ولهذا السبب, فان الجلسة التحليلية لا تحتمل أي شخص ثالث مع نظرة خارجية للصيرورة الفعلية الحاصلة. يُختزل الشخص الثالث, إلى ذلك الموقع الذي هو موقع ال-آخر. يتمّ بموجب هذا المبدأ إقصاء تدخَل أيَّ عناصر ثالثة سلطوية, تسعى إلى تحديد مكان ما لكل فرد, وغاية معرّفة مسبقا للعلاج التحليلي. أن الطرف الثالث المقيّم, يندرج في سلسلة العناصر الثالثة, التي تستمد نفوذها من خارج ما يحصل ما بين المتحلل, والمحلل, واللاوعي (اللاشعور).

المبدأ الخامس
لا يوجد علاج من الممكن القياس عليه ولا توجد إجراءات عامة يتم بحسبها توجيه العلاج التحليلي. لقد استعمل فرويد مجاز الشطرنج, ليشير إلى أن ثمة قواعد ونقلات نمطية قائمة فقط في بداية اللعبة ونهايتها. ومما لا شك فيه, بأن اللوغريتمات التي تمكّن من صياغة لعبة الشطرنج قد تعاظمت منذ فرويد. وبارتباطها بالقدرة الحسابية لآلة الحاسوب, فإنها تمكّن الآلة من أن تهزم اللاعب البشري. وهذا لا يغيّر من حقيقة أن التحليل النفسي وعلى خلاف لعبة الشطرنج, لا يمكنه أن يعرض على نحو لوغريتمي. باستطاعتنا أن نرى ذلك عند فرويد نفسه, والذي نقل لنا التحليل النفسي بوساطة حالات عينية: "رجل الجرذان", "دورا", "هانس الصغير", الخ. مع "رجل الذئاب" دخلت سيرة العلاج في أزمة, حيث لم  يعد فرويد قادرا أكثر, على شمل جميع تعقيدات المسارات الحاصلة, ضمن سرد موحد للسيرة المرضية. وبعيداً عن أن تكون تجربة التحليل النفسي قابلة للاختزال إلى أجراء تقني محض, فأن لها ثابتاً واحداً ووحيداً: ذاك المرتبط بأصالة السيناريو والذي تتجلى من خلاله كل التفرّدات الذاتية الخاصة. وعليه, فليس التحليل النفسي تقنية وإنما خطاب يستحث كل واحد إلى إنتاج فرادته والاستثناء الخاص به.

المبدأ السادس
من غير الممكن إتباع قاعدة عامة بالنسبة لمدة العلاج الزمنية أو بالنسبة لكيفية تسلسل الجلسات. لقد اختلفت مدة العلاج الزمنية عند فرويد من حالة لأخرى. فهناك علاجات استغرقت جلسة واحدة فقط كما في تحليل "غوستاب ماهلر", وتحاليل دامت أربعة شهور كما في حالة "هانز الصغير", وسنة كاملة  كما في "رجل الجرذان", وسنين عديدة كما في رجل الذئاب. ومنذ ذلك الحين لم يتوقف التنوع والخروج عن المألوف من التزايد. كما أن تطبيق التحليل النفسي خارج العيادة الخاصة, وفي الأطر التي تقدم خدمات علاجية, قد أسهم في تنوع المدد الزمنية للعلاج. إن تنوّع الحالات العيادية وتعدد الأجيال التي تم معها تطبيق التحليل النفسي تجعل من الجائز الاعتقاد بأن طول فترة العلاج حاليا, وفي أفضل الحالات, تعرَف وفق ما يمكن وصفه كَ "خياطة حسب الطلب". يتواصل التحليل إلى النقطة التي يشعر معها المتحلّل باكتفاء على نحو مرض مما قد تمت تجربته, لكي ينهي تحليله. ليس الهدف من التحليل تطبيق قاعدة متعارف عليها وإنما الوصول إلى حالة من الوفاق ما بين الفرد وذاته.

المبدأ السابع
ليس بمقدور التحليل النفسي تحديد هدفه ومنحاه بناء على مفاهيم تكيّف فرادة الذات مع قواعد سلوكية وقوانين وحتميات ومعايير واقعية. في مقدمة المكشوفات التي حققها التحليل النفسي, كشف عجز الذات من الوصول إلى إشباع جنسي تام. ذاك العجز الذي يشار إليه من خلال مصطلح " الخصاء". علاوة على ذلك, فلقد توصّل التحليل النفسي مع لاكان, إلى صيغة مفادها استحالة وجود قاعدة عامة بالنسبة للعلاقة ما بين الجنسين. وحيث لم يكن هنالك من إشباع تام ولم تكن هنالك قاعدة عامة فما يتبقى لكل شخص هو أن يبتكر حله الخاص, حلا  يؤسس على عارضه. ومن الممكن لهذا الحل الخاص أن يكون نمطيا بقدر يزيد أو يقل, وأن يعتمد بمقدار متفاوت على التقاليد والقواعد المشتركة. وعلى النقيض من ذلك, فمن الممكن له أن يميل نحو الذهاب إلى قطيعة أو إلى سرية خاصة. ويبقى صحيحا في نهاية الأمر, انه ما من حل واحد "يناسب الجميع" بما يتعلق بالعلاقة ما بين الجنسين. وبهذا المعنى, فان هذه العلاقة ستبقى ممهورة بختم "غير القابلة للشفاء", وسيبقى فيها ما يُخفق, على الدوام. فعند الكائنات الناطقة ينشأ الجنس من أل- " ليس الكل".

المبدأ الثامن
لا يمكن اختزال عملية التأهيل التحليلي إلى نظم تأهيل جامعي أو إلى نظم لتقييم ما قد تم انجازه خلال الممارسة. أن التأهيل التحليلي, ومنذ تأسيسه كخطاب, يرتكز على ثلاثة أعمدة: مؤتمرات التأهيل النظري (بجانب-الأكاديمية), المحلل قيد التأهيل والذي يواصل تحليله حتى نهايته (ومن هنا تنبع تأثيرات التأهيل), والتمرير العملي للممارسة العيادية من خلال جلسات الإشراف المهني Supervision (محادثات مع زملاء متساوين حول الممارسة). لقد آمن فرويد في مرحلة معينة, أنه من الممكن تحديد هوية للمحلل النفسي. إن نجاح التحليل النفسي بحد ذاته, وتحوله ليصبح عالميا وتعدد الأجيال التي تعاقبت تباعا, طوال المائة سنة الماضية تشير إلى أن هذه المحاولة لتحديد هوية واحدة للمحلل النفسي ما هي إلا محض وهم. إن تعريف المحلل النفسي  يشمل التغيّرات في هذه الهوية. بل هو تلك التعددية بعينها. لا يشكل تعريف التحليل النفسي قيمة عليا, وهو يشمل تاريخ التحليل النفسي ذاته, وما كان سمي تحليلا نفسيا في سياق خطابات متباينة.

يحوي لقب المحلل النفسي مركبات متناقضة. فهو يتطلب تأهيلا أكاديميا, جامعيا أو ما يوازيه, يتضمن مقارنة عامة للدرجات الأكاديمية. وهو يتطلب تجربة عيادية تمرر بخصوصيتها تحت إشراف الزملاء المتساوين. ويتطلب أيضا تجربة متطرفة بتفردها في التحليل النفسي. إن العام والخاص والفردي مستويات متباينة الخصائص. إن تاريخ حركة التحليل النفسي هو تاريخ اختلافات وتأويلات بالنسبة لهذا التباين. ويشكّل هذا التاريخ عنصرا من عناصر تلك المحادثة الكبيرة الخاصة بالتحليل النفسي والتي تمكّن من التصريح عمّن هو المحلل النفسي. يتم هذا التصريح عبر مراسيم متبعة في المجتمعات المعرفة كمؤسسات تحليلية. وبهذا المعنى, فان المحلل ليس وحيدا أبدا, وهو مرتبط على غرار النكتة ب-آخر يعترف به. ولا يمكن اختزال هذا ال-آخر إلى آخر القواعد المقبولة, الاستبداد, التنظيم والمعيار. إن المحلل هو ذاك الذي يشهد مؤكدا أنه نال من التجربة ما كان باستطاعته توقعه منها, وعليه فقد اجتاز "عبورا" ( (Passكما سمّى ذلك لاكان. فهو يشهد عن تجاوزه لمعابر ذاته المغلقة. إن المحاورة التي يريد من خلالها المحلل أن يحصل على موافقة بالنسبة لذاك "العبور" تتم في الأطر التنظيمية.  وعلى نحو أعمق, تدون تلك المحاورة في المحادثة الكبيرة ما بين التحليل النفسي والحضارة. إن المحلل النفسي ليس متوحدا منغلقا على ذاته. فهو لا يتوقف عن التوجه لشريك المحاورة الخيّر وللرأي العام النيَّر راغبا في حراكه والوصول إليه, لأجل السبب التحليلي.


ترجمة: خليل سبيت.
مراجعة وتنقيح: د. هشام روحانا.
تدقيق لغوي: جودي سابا حاج.